بسم الله الرحمن الرحيم
الإخراج المسرح
لئن كان المخرج، إلى حد ما، وافداً حديثاً على المسرح، فان منزلته في المسرح الحديث
في عملية عرض النص الحي على المسرح لا يسبقها في الأهمية سوى منزلة المؤلف.
وهذه حقيقة يتأكد صدقها بنوع خاص في مسرح الهواة، حيث يكاد المخرج يكون "المحترف"
الوحيد في هذا الميدان، بل حتى في مسارح برودواي، وإن كانت بعض الأسماء أمثال دافيد بيلاسكو،
وتيرون جاثري، وإيليا كازان، قد أحرزت صيتاً لم يحرزه من قبل سوى المؤلفين ونجوم التمثيل.
وترجع لفظة مخرج من الناحية التاريخية، إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي،
وإن وجد دائماً من يتولى القيام بأعباء بعض الوظائف التنفيذية المعينة.
ففي اليونان القديمة كان هذا الشخص، في غالب الأحيان، هو المؤلف، وفي إنجلترا
كان أبرز ممثلي الفرقة. وعرف الزمن أشخاصاً آخرين، تفاوتت بينهم نسب النجاح، تولوا مهمة
الإشراف على التدريبات وتقديم المسرحية على خشبة المسرح. غير أن فكرة المخرج
هي في الواقع وليدة القرن العشرين الميلادي، وهو يسمي في أوروبا "الريجسير".
إلى الآن لم يبت فيمن يستحق أن يدعي بلقب أول مخرج في التاريخ، إذ ليس ثمة بداية
محددة مفاجئة، كما هي الحال في معظم الأشياء، لكن برز اسم "دوق ساكس ميننج "،
ذلك الهاوي الملوكي الذي ظهرت فرقته لأول مرة بإخراجها الدقيق في برلين
في أول مايو عام 1874م. وكان يتشدد في مراعاة النظام، ولذلك كانت فترة التدريبات
المسرحية للممثلين عنده طويلة. ولم يكن بفرقته نجوم، إذ كانت كل الأدوار في عرفه مهمة،
وقد أخضع المناظر والإضاءة والملابس والماكياج والملحقات للتخطيط الدقيق،
وامتزجت جميعها في إطار التمثيل العام.
وقد ظهر في أواخر القرن التاسع عشر وطليعة القرن العشرين الميلاديين عدد كبير
من أعلام المخرجين، ففي باريس أضفي "أندريه أنطوان" على المسرح طبيعة جديدة،
وبساطة وعقيدة بمسرحه الحر. وفي ألمانيا ثم أمريكا أسهم "ماكس رينهارت"
1873 - 1943م بنماذج إخراجية تجمع بين المخيلة والتأثير المسرحي والإبهار.
وفي أمريكا سعت الشهرة إلى "دافيد بيلاسكو David Belasco"
الذي عرف مؤلفاً ثم مخرجاً مسرحياً يصل بالواقعية إلى مستويات لم تكن بعد ممكنة.
ولتحقيق هذه الغاية وضع نظاماً دقيقاً لفترة طويلة من التدريبات تتضمن التوافق الشامل
بين عناصر العرض كافة.
لكن مع كل هذا فقد ظهرت النظريات الإخراجية المختلفة كلها من روسيا، ولعل أعظم
المخرجين الروس قاطبة هو "كونستانتين ستانسلافسكي" 1863 - 1938م.
الذي احتضن المسرح مشبعاً بالهواية، مثله في ذلك مثل رائده دوق ساكس ميننجن،
بعد أن ضاق ذرعاً برخص أساليب المسرح التجاري وضحالتها.
تكاد معظم مبادئ ستانسلافسكي في الإخراج المسرحي تتلاقى مع دوق ميننجن أو تذهب
إلى أبعد منها، فبينما كان الدوق يجري التدريبات لمدة خمسة أسابيع، عمد ستانسلافسكي إلى
إطالة فترة التدريبات لتصل إلى تسعة أشهر، أو تبلغ العامين في مسرحية هاملت. وفي مسرح
موسكو تحولت الأدوار الصغيرة إلى أدوار مهمة، فكان من شعارات المسرح الأساسية
"لا شيء اسمه أدوار صغيرة ولكن هنالك فقط ممثلون صغار"، ومن ثم كان كبار النجوم،
بمن فيهم ستانسلافسكي نفسه كثيراً ما يظهرون في أدوار ثانوية. وكان الولاء للنص
دون أي اعتبار للنجاح الشخصي للممثل على أساس "على المرء أن يحب الفن،
لا أن يحب نفسه في الفن"، لذلك تميز مسرح موسكو بالولاء الجماعي.
وعلى النقيض من هذه الجهود الجماعية وهذا الأسلوب الطبيعي لدى ستانسلافسكي
نجد أعمال فسفولود ميرهولد 1874 - 1940م، أحد تلامذة "ستانسلافسكي" النابهين
الذي تبرم بهدوء مسرح موسكو الفني وتحكمه الطبيعي، فانفصل عنه ليختط لنفسه نظاماً
مغايراً خلاصته أن المسرح ليس مجرد محاكاة شاحبة للحياة، وإنما هو شيء أكثر عظمة
وأعمق تعبيراً من الحياة نفسها.
ولم يكن منهج "ميرهولد" في الإخراج بأقل ثورية من أسلوبه في العرض. كان يمثل الدكتاتور،
أو الفنان الخارق الذي تنبع منه جميع الأفكار. وكانت عبارته المأثورة في التدريبات
"راقب ما أفعل وقم بمحاكاتي". وهكذا كانت كل الأدوار من ابتكار هذا المخرج صاحب
المنهج الخاص، أما الممثلون فتقتصر مهمتهم على المحاكاة وكان مسرحه لامعاً؛ لأنه هو
نفسه كان لامعاً، ولكنه عندما انقضى، انقضى كذلك مسرحه من بعده.
ومع ذلك فحتى في روسيا لا نجد صفوة يتميزون بأسلوب محدد، فمخرج مثل
"يوجين فاختانجوف" 1883 - 1922م، كان ينزع إلى وضع وسط فيرتكز في عمله
على الصدق الداخلي العميق في التمثيل، وهو من مميزات مسرح موسكو الفني.
لما كان للمخرج كل هذه الأهمية سواء في المسرح المحترف، أو أكثر أهمية في مسرح
الهواة كونه محرك العمل المسرحي بمكوناته المختلفة التي يستغلها المخرج المحترف
لخدمة النص، مثل الديكور والإضاءة المسرحية والملابس والموسيقى، كون المخرج يمثل كل هذه
الأهمية خاصة في المسرح الحديث، فقد اتجه التفكير إلى إنشاء مدارس لتعليم فن الإخراج،
غير أن الأمر يختلف هنا عن تعليم أي مهنة آخرى، حيث إن للإبداع الفكري الفطري للمخرج
واستعداده وحبه لهذا اللون من الفن، أمراً لا يجب إنكاره أو تجاوزه. لذا لم يكن التدريب
المباشر كفيلاً بتحويل أي كائن من كان إلى مخرج. وللمخرج عدة أدوار في العمل المسرحي:
له دور الفنان، وله دور المعلم الذي يدرب الممثلين على القراءة، وله دور الإداري.
وتقول الحقيقة البسيطة إنه لا بد أن يوجد الإنسان الذي يلقن أحياناً إنساناً آخر شيئاً وهذا هو
المخرج المسرحي. ويذكر "جورشاكوف" في كتاب "ستانسلافسكي مخرجاً"، كيف كان
ستانسلافسكي يعرف فرقة مسرح الفن بموسكو بمهزلة فرنسية غريبة عن منهجهم،
فكان يقرأ ويمثل كل دور ليساعد الممثلين على فهم طبيعة المسرحية. وهذه سابقة
توضح أسلوب التلقين.
تحياتي